تاريخ الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة المبكّر | أرشيف

لوحة للفنّان مصطفى الحلّاج (1938 - 2002).

 

المصدر: «مجلّة كتابات».

الكاتبة: سامية رؤوف.

زمن النشر: 1 كانون الثاني (يناير) 1980.

العنوان الأصليّ: الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ.

 


 

عندما يقيم الفنّانون التشكيليّون الفلسطينيّون معارض لتقديم أعمالهم الفنّيّة، مثلما حدث طوال العام الماضي في مختلف دول الخليج العربيّ، وبخاصّة في الأسابيع الثقافيّة الفلسطينيّة وغيرها من المناسبات، أو حتّى العروض الفرديّة الّتي يقوم بها فنّانون مختلفون؛ فإنّهم يقدّمون بذلك استمرارًا لحركة متّصلة للفنّ التشكيليّ في فلسطين المحتلّة، بدأت تقريبًا منذ عام 1965.

ولقد نُشِرَت دراسات تتعرّض لذلك الموضوع الهامّ، منها الدراسة الّتي نُشِرَت في «مجلّة البيادر المقدسيّة» أخيرًا، للكاتب سمير عثمان، وكذلك الدراسة الّتي نُشِرَت هذا العام للكاتب الفلسطينيّ محمّد المشايخ في صورة كتيّب صغير، صدرت عن «منشورات آسيا» بعنوان: «أضواء على الأدب والفنّ في الأرض المحتلّة».

أشارت الدراستان إلى تطوّر مراحل الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ؛ فكان المعرض الأوّل في شباط (فبراير) 1972، للفنّان عصام بدر في «بلديّة الخليل»، وهو من أوّل المعارض المبكّرة للفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ، وضمّ ستّة وعشرين عملًا زيتيًّا، وثماني عشرة لوحة حُفِرَت على الزنك والجبس والخشب. ثمّ المعرض الثاني وقد كان مشتركًا بين نبيل عناني ورحاب النمري في القدس في أيّار (مايو) من العام نفسه، ثمّ في عام 1973 معرض الفنّان محمد حمّودة، وبعد ذلك في عام 1974 بدأ الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ يكوّن جمهورًا عريضًا، ويشكّل تفاعلًا مع باقي الظواهر السياسيّة والثقافيّة، إضافة إلى عروض الفنّانين كامل المغني وبشير سنوار وفيرا تماري؛ فقد كان أهمّ ما يميّز تلك المرحلة هو الجلسات المشتركة والمناقشات الدؤوبة الّتي بدأها عصام بدر ونبيل عناني ورحاب النمري وإبراهيم سابا وعزيزة جرار وهايك ليدجيان، وغيرهم، لبحث أوضاع الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة.

بعد ذلك، توالت المعارض، وإن تميّزت بروح جديدة، هي روح الاشتراك الجماعيّ مثل المعرض المشترك الأوّل للفنّانين الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة عام 1975، ثمّ في شهر آب (أغسطس) من العام نفسه، وظلّت تتوالى المعارض المشتركة طوال الأعوام التالية حتّى كان عام 1980، حين شهد نقلة جديدة تمثّلت في إنشاء «رابطة التشكيليّين الفلسطينيّين»، وإقامة عدد كبير من المعارض الفنّيّة، كان أهمّها «مهرجان الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ» الأوّل في «غاليري 79».

 

قضيّة الفنّان 

هذا هو التاريخ الملخّص لتطوّر الحركة، والتساؤل المطروح هنا هو حول قضيّة الفنّان التشكيليّ؛ فما من شكّ أنّ الفنّانين الفلسطينيّين يحملون على أكتافهم رسالة مقدّسة، هي المشاركة في النضال ضدّ العدوّ الصهيونيّ، ولقد تعرّض جميعهم للملاحقة والمصادرة والسجن والقهر، مشاركةً للشعب الفلسطينيّ في وطنه المحتلّ ونضاله الباسل ضدّ استفزازات العدوّ وهجماته الوحشيّة، إلّا أنّ حمل رسالة عظيمة كتلك لا يكفي وحده لقيام فنّ عظيم، وأنّ الدور الّذي يجب أن يؤدّيه الفنّان الفلسطينيّ هو العمل من أجل تأكيد موضوعيّة الفنّ الفلسطينيّ، إلى جوار موضوعيّة النضال السياسيّ العسكريّ اليوميّ؛ فلا يكفي أن يسترشد الفنّان ببعض الشعارات السياسيّة ليقولها مباشرة في لوحته، لأنّها حينئذ قد تقوم بدور سياسيّ، ولكنّ القيمة الحقيقيّة للفنّ تنبع من استقلاله بقوانينه الخاصّة، ومن هنا يكون ثراؤه ويكون امتلاكه الحقيقيّ وليس الخارجيّ، لكلّ الأبعاد الاجتماعيّة والسياسيّة الأخرى. إذ أنّ الفنّان الّذي يستطيع أن يطوّر قيمة جماليّة لشعبه، هو الفنّان الّذي يطوّر حسّه ووجدانه ليصبح أكثر كفاءة للقيام بنضاله في كافّة الظواهر الأخرى. أمّا الفنّان الّذي يقدّم مجرّد الشعار السياسيّ، فهو أساسًا لا يطوّر القيم الفنّيّة، علاوة على أنّ الشعار الّذي نادى به هو معروف مسبقًا، وليس بحاجة إلى مزيد من التأكيد والتعريف.

إنّ تجربة الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ لتشوبها شوائب كثيرة، شأنها شأن كلّ تجربة نضاليّة صاعدة في العالم كلّه، منها المباشرة والإلحاح على الشعار السياسيّ والتقليديّة في كثير من الأحيان، ولكنّ ذلك لا يلغي الدور النبيل الّذي قامت وتقوم به من نقد ذاتيّ وإعادة نظر مستمرّة، ممّا سيكفل لها مستقبلًا أرحب.

علاوة على أنّ هناك في خضمّ هذه الحركة المتميّزة علامات مضيئة، على روّاد هذه الحركة أن يركّزوا الضوء عليها، وأن ينمّوها؛ فرموز الفنّان مصطفى الحلّاج مثلًا استطاعت أن تحقّق وجودًا مثيرًا في أعماقنا، وكذلك الروح الّتي تدفّق من خلالها الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ؛ حيث نشعر بشيوع رمز معيّن يظلّ يميّز التجربة لفترة طويلة؛ ففي عام 1982، اتّخذ الفنّانون شعارًا لهم وهو القرية الفلسطينيّة، بعد أن كانت أرض فلسطين عام 1980، ثمّ القدس بعد ذلك. لقد استطاعت أحصنة مصطفى الحلّاج المقهورة المنطلقة أن تغزوا عددًا ضخمًا من اللوحات لفنّانين تشكيليّين عديدين، وما يجعلنا نميّز تجربة الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ بجرأة، هو ذلك التوحّد والالتحام الحميم في مسار الرؤيا العامّة لفنّهم.

يرى الفنّان التشكيليّ الفلسطينيّ توفيق عبد العال نفس الرأي، حيث يصرّح بأنّ اللوحة موقف له أبعاده النضاليّة، لكنّ هذا لا يعني الهبوط بالقيمة الجماليّة للوحة أو الوقوف بها عند مجرّد الشعار. كما يرى الفنّان التشكيليّ الفلسطينيّ الشابّ عبد الرحمن المزيّن أن تفجّر الشعارات في اللوحة الفلسطينيّة كان في الخمسينات، حيث عموميّة المأساة وتوثيق النكبة، ثمّ تغيّر ذلك مع مزيد من البشارة في الستّينات والسبعينات، ثمّ البحث عن الهويّة وخصوصيّة فلسطينيّة هو دور الفنّ في المرحلة المقبلة.

حقًّا إنّ أعظم ما قدّمه الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ هو المشاركة في توظيف التاريخ والأسطورة والفولكلور الشعبيّ لمجابهة محاولة العدوّ الصهيونيّ لمسخ ذلك التراث العظيم. فليعمل الفنّانون على البحث عن الهويّة الفلسطينيّة، وليس مجرّد الإعلانيّة والشعاريّة، حتّى نضيف إلى تاريخ الفنّ التشكيليّ العربيّ نقطة بارزة وأساسيّة، ومواكبة لأخطر قضيّة عربيّة معاصرة، هي قضيّة احتلال فلسطين العربيّة.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.